قسوة الفراغ!
صُور غارقة في الألم تلك التي تأتينا من مدينة الفنيدق على مدخل سبتة المُحتلة، حيث يتجمهر المئات من المغاربة ومعهم مهاجرين من تونس والجزائر ومن دول جنوب الصحراء، أغلبهم أطفال قاصرين يحلمون بالعبور إلى "أرض الميعاد". أوروبا!
وإن كانت الهجرة غير النظامية ظاهرة عالمية، وما يحدث في الفنيدق شبيه إلى حد كبير بما حَدَثَ خلال الأسبوع الجاري بين فرنسا وإنجلترا حينما توفي ثمانية مهاجرين أثناء محاولتهم عبور قنال "المانش"، رافضين الدفء الاجتماعي لفرنسا مقابل ما يعتقدون أنه "طموح أوسع" في انكلترا، أو ما نقرأ عنه يوميا من موجات هجرة على الحدود التركية البلغارية، أو بين ليبيا وتونس مع إيطاليا، أو موجهة الهجرة من الجزائر إلى إسبانيا، إلاّ أنّ ما يحدث في الفنيدق له خصوصيته وإن كانت الظاهرة واحدة.
فأن تهرب عائلة بأطفالها من بلاد ترزح تحت حرب قائمة في دولة إفريقية جنوب الصحراء، مثلا، إلى سواحل المملكة للعبور إلى أوروبا، فهذا مفهوم إنسانيا، وأن يحاول شخص يائس في عقده الثالث أو الرابع أن ينجو من فقره في دولة ما نحو حلم حياة اجتماعية أفضل في أوروبا، فقد يكون لذلك ألف مُبرر، لكن أن نشاهد مئات القاصرين اليافعين ممن يفترض أن مكانهم الطبيعي هي أقسام الدراسة، وبين أحضان عائلاتهم، حيث نضجهم ووعيهم يختمر بهدوء لبناء حيواتهم بعلم يتلقونه، أو بمهنة بتشبعون بها، أو بحلم يرسمونه بواقعية تنضج مع العمر.. فهنا وجب التوقف طويلا عند "صدمة الخواء" التي أصبح يعيشها جيل صاعد بكامله، تشبع بشكل مُفرط بـ"أحلام هجرة غير واقعية"، اكتسبها من بيئة تعرف فراغا قاتلا نتج عن سنوات قاسية من العوامل السلبية داخل المجتمع المغربي، تتحمل مسؤوليتها الدولة، ومن عواملها تفكك الأسرة وقيمها ودورها في التربية.
وإن كانت الدول الديمقراطية في العادة حاضنة لأبنائها، فإن الدولة في المغرب نفضت يدها عن الكثير من مقومات بناء مجتمع للمستقبل قادر على الحلم والطموح والإيمان بالقدرة على العيش بكرامة وعدل داخل المملكة. وعبر سنوات، تخلت الدولة عن دورها في حماية المجتمع، والجيل الصاعد من مطبات الحياة، وفوتت هذا الدور لمؤسسات وأشخاص تبين أن لا هَمَّ لهم في بناء "جيلٍ للمستقبل"، فقُتلت الوسائط التي تغذي المجتمع بقيمه الحضارية، وتفككت الأسرة بشكل تدريجي، ولم تعد تلعب دورها في التربية حتى بات الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي هي من تربي، وأصبح التعليم فاسدا، حتى باتت المدرسة العمومية مُنتجة للجهل ضمن منظومة فوضوية تغلب عليها الأنانية والامتيازات والجشع، وبات 294 ألفا من التلاميذ يغادرون أقسامهم الدراسية، سنويا، بعد أن جُربت فيهم كل البيداغوجيات والمخططات وتعرضوا لشتى أنواع الأيديولوجيات الإسلاموية واليسارية والمحافظة وحتى المتطرفة.. وكل يغني على ليلاه في مقررات تُجدد كل سنة في حرب حشو عقول فضيعة، كانت نتيجتها بروز جيل بكامله يعاني من العطب الفكري، وفراغات فضيعة في قدرته على بناء مستقبله، وضياع مُؤلم لأحلامه.
فلا الأسرة المغربية أصبحت قادرة على أن تربي أبناءها، ولا المدرسة أصبحت تنتج علما، ولا أحزاب حاضنة ومؤطرة لجيل شباب يحلم بغد أفضل، ولا حكومات متعاقبة استطاعت أن تكون صادقة مع المغاربة، ولا إعلام عمومي يغذي الوعي، ولا مجتمع مدني يلعب دور الوسيط في التأطير. والنتيجة كانت جعل البلاد عبارة عن "وليمة" لجشع السياسيين، والانتهازيين، يوجد منهم، اليوم، أزيد من 175 برلماني ورئيس جماعة رهن الاعتقال أو العزل أو المحاكمات والمتابعات القضائية في ملفات فساد، بعدما كان يفترض أن يكون دور هؤلاء هو المراقبة وتشريع القوانين والعمل على التنمية وتطوير البلاد والعباد وتهيئة بيئة حاضنة لمستقبل الأجيال الصاعدة من المغاربة.
وإن كان القاصرون الصغار هم الأغلبية ممن ترغب في "الحريك" إلى إسبانيا عبر سبتة المحتلة، فلأنهم تشبعوا بثقافة يائسة من الكبار ممن قهرهم الغلاء، والتضخم، وقلة حيلتهم في حياة كريمة، وحقوق ضائعة مع حكومة مليئة بالجشع أكثر منه ببرامج تجعل المغاربة يثقون فيها.
فكثير من الوزراء دفعهم القدر في أن يصبحوا وزراء في حكومة قيل إنها لـ"الكفاءات"، قبل أن يتبين أن الكثير من وزرائها عبارة عن ثقل زائد لميزانية الدولة مثل ما هو الحال مع يونس السكوري، وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات الذي أوكلت له مهمة تنشيط التشغيل، فإذا بالأرقام في عهده تهوي وفق مذكرة أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط كشفت من خلالها أنه ما بين الفصل الأول من سنة 2023 والفصل نفسه من سنة 2024، سجلت وضعية التشغيل بالمغرب فقدان 159.000 منصب، ليصل رقم العاطلين إجمالا إلى 1.645.000 شخص. وفقدت الفلاحة أكثر من 200 ألف منصب عمل خلال سنة واحدة، وتراجع إحداث مناصب الشغل في قطاع الخدمات من 164 ألفا إلى 15 ألفا فقط، ليبلغ إجمالي مناصب العمل التي خسرها الاقتصاد الوطني 157 ألفا سنة 2023 مقابل فقدان 24 ألفا سنة 2022.
وقبل ذلك كان مكتب "أنفوريسك" المتخصص في مجال المعلومات القانونية والمالية، والذي يتعامل معه الاتحاد العام لمقاولات المغرب، قد كشف أن 14.245 شركة أعلنت إفلاسها مع نهاية سنة 2023، مقابل حوالي 12.499 شركة سنة 2022، أي بارتفاع قدره 15 في المائة، بينما كانت 10.600 شركة قد أفلست سنة 2021، و6700 سنة 2020، و8400 سنة 2019، ما يعني أن إفلاس المقاولات في عهد السكوري أكبر حتى مما سُجل خلال ذروة فترة جائحة كورونا. بمعنى أصح، أصبحت حكومة رجل الأعمال عزيز أخنوش حكومة إنتاج العاطلين عوض أن تكون حكومة تنشيط التشغيل، كما أن حكومة صماء لا تتواصل مع المجتمع، وغير قادرة على ذلك، لأنها منفصلة عنه بشكل رهيب!
وحينما تتراكم العديد من هذه العوامل، دون أن نحاول الانتباه إليها أو تصحيحها، تصبح النتيجة واحدة. جيل يفترض أن يكون عماد الدولة في المستقبل، يصبح ضائعا، وتائها، وعقول أطفال لم يبلغوا سن الرشد (18 سنة) تصبح مبرمجة على القبول بـ"قهر الهجرة" عوض الحلم بمستقبلهم داخل الوطن.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :